لا ينشأ هذا التساؤل في فراغ مجرد، بل ينشأ بسبب وجود فراغ سياسي منذ توقف "المفاوضات" الفلسطينية الإسرائيلية قبل بضعة أشهر، ورفض الحكومة الإسرائيلية الإفراج عن دفعة أخيرة من الأسرى الفلسطينيين كما كان قد تم الإتفاق عليه فبل بدء المفاوضات. وينشأ هذا التساؤل بإلحاح بعد كل مواجهة عنيفة مع قوات الإحتلال، كما حدث في عدة مدن في الضفة الغربية، بعد الإجتياحات والإعتقالات التي تمت إثر اختطاف المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، بما في ذلك مدينة رام الله. وخلال هذه المواجهات في رام الله ليلة 21 حزيران/يونيو التي سقط فيها أحد الشهداء، تعالت هتافات واضحة تطالب بإيقاف التنسيق الأمني كما حصل في عدة مدن فلسطينية من قبل.
إن الإجابة على هذا التساؤل بسيطة ومباشرة على مستوى معينا من التحليل: سينهار التنسيق الأمني متى سحب عنه الغطاء السياسي الفلسطيني للسلطة والقيادة الفلسطينية. ولن يتمكن التنسيق الأمني من الإستمرار لفترة طويلة دون هذا الغطاء لأن رجال الأمن الفلسطينيين عندئذ سيواجهون شعبهم كوكلاء للمحتل أو أسوأ، الوضع الذي شارفوا الوصول إليه في أعين العددين لولا هذا الغطاء السياسي. لذا إن السؤال الأساسي هو: هل سينشأ ظرف يتم فيه سحب هذا الغطاء الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار التنسيق الأمني ؟
يكثر الحديث والتساؤل عن إمكانية حصول إنتفاضة ثالثة بين الحين والآخر وكلما اشتدت حدة المواجهات مع الإحتلال، وقد يتبادر للمراقب أن التنسيق الأمني سينهار في ظرف مثل هذا إن نشأ. وقد بين الأستاذ جميل هلال في مقالة قيمة الأسباب التي تعيق حصول مثل هذه الإنتفاضة سواء أخذت شكل الإنتفاضة الأولى أم الثانية، أو شكلا آخر مختلفا عن الإثنتين (1). بالرغم من هذا، سأسعى هنا لأن أبين أن التنسيق الأمني قد ينهار في غمرة مواجة أخرى ليست بعيدة سببها الأزمة السياسية المستفحلة للسلطة الفلسطينية، إن لم تجد لها نوعا من "الحل"، حتى لو أخذ شكل إدارة للصراع يكسبها قدر من الوقت، وهو ما سعت إليه مؤخرا من خلال "المصالحة" مع حماس.
وأبدأ "بالمصالحة"، التي وضعتها بين مزدوجين، لأن ما شهدناه هو إعادة تعريف لمعنى هذه الكلمة واختزالها بتشكيل حكومة متوافق عليها كأمر وحيد قابل للتنفيذ. عدا عن ذلك، تم الإتفاق على "تفعيل" عمل اللجان التي شكلت سابقا وتوقفت عن العمل، دون تحديد أية تواريخ لإنجاز أية مهام مناطة بها، وتكرار لما تم الإتفاق عليه من قبل. أقول إعادة تعريف لمعنى المصالحة لأن الوثيقة الأساسية التي تحدد معناها وماهيتها هي إتفاقية القاهرة من نيسان/أيار 2011 التي من المتعذر تنفيذ بنود رئيسية فيها، كما يعرف الطرفين ذلك، دون تغيير أساسي في الوضع الراهن، سياسيا وميدانيا. وأشير إلى ثلاثة بنود من إتفاقية القاهرة لإيضاح المقصود. الأول، دمج الأجهزة الأمنية في الضفة وقطاع غزة. هذا غير ممكن في الضفة لأن إسرائيل ستعتقل أية مرشحين من قبل حماس للإنضمام للأجهزة الأمنية. الثاني، عقد إنتخابات نيابية بعد "ما لا يقل" (كما في نص الإتفاق) عن ستة أشهر من تشكيل الحكومة. هذا أيضا غير ممكن لأن إسرائيل ستقوم باعتقال مرشحي حماس للمجلس التشريعي الفلسطيني، وهو أمر دأبت عليه بين الحين والآخر، قبل وبعد الإنتخابات النيابية التي تمت في العام 2006، وما زال عدد منهم في سجون الإحتلال. أما الثالث، وهو بيت القصيد من منظور سياسي لغرضنا الحالي، هو إنضمام حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال إجراء أنتخابات جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني. وإن تم هذا، من المرجح أن يقوم الكونغرس الأمريكي باعتبار منظمة التحرير بعد انضمام حماس إليها كمنظمة إرهابية، ومن المتوقع إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن العاصمة وقطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية. هذه الخطوة تتطلب فبول قطع العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل الأمر الذي رفضته السلطة والقيادة الفلسطينية حتى الآن. بالتالي، من المتعذر الإقدام على هذه الخطوة في أي وقت قريب حتى لو دُفِعت ضريبة كلامية بهذا الإتجاه بين الحين والآخر.
ما الذي قد يؤدي إلى انهيار التنسيق الأمني إذا؟ إن الأزمة السياسية للسلطة الفلسطينية هي المفتاح، أزمة شرعية إستمرار وجودها كما هي الآن دون أن تتحول إلى دولة بالفهم الفلسطيني للدولة، أي ليست ذات "حدود مؤقتة" ومقطعة الأوصال داخل الجدار العازل. فبعد ما يزيد ثلاثة وعشرين عاما من المفاوضات، منذ مؤتمر مدريد في نهاية العام 1991 وحتى الآن، لا يوجد للسلطة الفلسطينية مدى آخر مديد وغير متناه من الوقت "لمفاوضات" أخرى. لقد وصلت إلى نهاية الطريق، أو شارفت. فلم يتصور الفلسطينيون أن إنشاء السلطة الفلسطينية كان يهدف إلى أن تعمل كبلدية كبرى لإدارة شؤون المدنيين الفلسطينيين تحت الإحتلال لأجل دائم. بالتالي، أزمة شرعية استمرار وجودها كما هي، وهو تماما ما تريد بقاءه إسرائيل، مضاف إليه استمرار الإستيطان وسرقة الأرض الفلسطينية وتهويد القدس. نعم: واستمرار التنسيق الأمني.
ما هي خيارات السلطة الفلسطينية إذا؟ الخيار الأول هو ما اصطلح على تسميته بالمصالحة. وهذا يهدف إلى تعبئة الفراغ السياسي مؤقتا وكسب بعض الوقت وتأجيل القرارات الصعبة، لكن مفعوله ذو أمد قصير، عام واحد ربما؛ أكثر أو أقل. فدون مسار سياسي له مصداقية أمام الجمهور الفلسطيني المتشكك من جدوى "المفاوضات" أصلا، ستستمر أزمة الشرعية وستتفاقم.
أما الخيار الثاني وهو الأصعب، فيتطلب الإستمرار بتقديم طلبات الإنضمام إلى مجالس وهيئات ولجان الأمم المتحدة المختلفة. أقول الأصعب لأن إسرائيل سترد بإجراءآت أقوى وأقسى مما قامت به حتى الآن ومن النوع الذي عايناه في الإنتفاضة الثانية، من إغلاق طرق وتقنين وصول المحروقات إلى الضفة الغربية ومنع مسؤولين فلسطينيين من السفر وفتح ملفات فساد تطال بعض الأشخاص في السلطة، ومنع المواطنين من السفر للخارج عبر الأردن، أسوة بإغلاق معبر رفح في غزة، إنتقائيا أحيانا كما يحصل الآن مع سكان منطقة الخليل، من بين أمور أخرى. هذا هو خيار التأزيم والتصعيد الذي سيضع السلطة في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة أيضا.
هذا هو الخيار الأصعب لأن السلطة الفلسطينية ستضع حياتها على المحك وستغامر "بكل شيء" مقابل مغامرة إسرائيل بانهيار التنسيق الأمني، "رأس مال" السلطة الذي تريد الإبقاء عليه، في غمرة هكذا مواجهة. وفي ظرف مثل هذا إن تم، ستجري "مصالحة ميدانية" بين فتح وحماس في سياق المواجهة، وقد شاهدنا فبل بضعة أشهر إرهاصات مبكرة في مظاهرات مشتركة دعما للأسرى عندما اشتد إضراب بعضهم عن الطعام وأصبحت حياتهم معرضة للخطر.
لا توجد خيارات كثيرة للسلطة الفلسطينبة باستمرار الإنسداد السياسي. وإذا اختارت الاستمرار بما يمكن أن يسمى بالمقاومة الدبلوماسية والقانونية من خلال الذهاب إلى الأمم المتحدة، سيتوحد حولها شعبها في غمرة المواجه ، ولن يصمد التنسيق الأمني الذي سينهار في نهاية الأمر بسبب فقدان الغطاء السياسي بفعل إقدام السلطة على المواجهة. لكن هذا الخيار يستلزم إرادة سياسية لم تتولد حتى الآن. ولكن من غير المستبعد أن تتولد في مرحلة ما، ربما بضغط شعبي من النوع الحاصل الآن تجاه التنسيق الأمني، إن استمر الإنسداد السياسي الحالي وتفاقم أزمة شرعية إستمرار وجود السلطة الفلسطينية كما هي الآن.
___________________________________
(1) جميل هلال، "ما المعيق لاندلاع إنتفاضة ثالثة؟" http://al-shabaka.org/ar/node/771